حذائي المهترئ
يمنات
أحمد سيف حاشد
حضرتُ الصباح إلى “قرية العِقام”،في عزلة “الأعبوس”، وبمعيتي الرفيق راجح علي صالح وآخرين.. شاهدت السيارة عالقة، بل مُعلّقة كشاة مخلوس، وبتعاون أبناء القرية تم بمشقة وحذر اصلاح وضع السيارة التي كانت مُهددة بقلبة أخرى.. ثم أستمر العمل بجهد مثابر لاستكمال شق طريق فرعية مستحدثة في المدرّج، لإخراج السيارة إلى الطريق العام.
لم يكن حضوري إلى المكان صباح ذلك اليوم لافتاً.. لم أكن مُميزاً عمّن هم بمعيتي في السيارة التي تقلّني.. كانت سيارة عادية غير لافتة، كما لم أكن أختلف في هيئتي عن الموجودين معي.
كان البعض لازال منهمك في العمل، ولا يعلم بوصولي إلى المكان، وبعضهم بجواري لم يعرف أنني المرشح، ربما لغياب ما يميزني عمّن حولي.. بعض أبناء القرية كان يسأل عن المرشح الذي يشقون طريقاً لسيارته العالقة، ولا يدري أكثريتهم أنني أجوس بينهم.
عندما عرف أحدهم أنني المرشح، تملكته الدهشة والاستغراب، وبدلاً من أن يحيّيني أو على الأقل يجاملني، تطلّع نحوي، وقال بتلقائية لمن هم جواره: “ما معوش صندل سعما الناس ويشتي يطلع مجلس نواب”.
رأيتُ بعضهم يمعن النظر إلى “صندلي”.. بعضهم تعاطف معي، وبعضهم استغرب، وقليل ربما سخر أو هكذا بدت لي بعض الوجوه. أمّا أنا فلم أدرك حال حذائي إلا في تلك الهنيئة العابرة، ولكن هذا لم يمنع من مرور مجنزرات بعض النظرات الثقيلة على قدميي التي كانت تنتعل تلك الحذاء البائس.
لم أكن أعلم بحال حذائي إلا في تلك اللحظة الثقيلة.. كانت ذابلة كوردة مهملة داستها الأقدام، أو كشمعة ساحت واستنفذت صلاحية بقاءها.. أحسستُ بصمودها الذي فات.. كانت مهترئة الحواف والجوانب.. وجهها مكرمش في بعضه، ومقروش في بعضه الآخر.. قاعها مفلطح ومضغوط إلى الحد الذي أحسست أنها مثقلة بمن تحمله.. صبرت عليّ أكثر من صبر أيوب.. بدت أمام الجميع مجهدة ومتأكلة.
ما كان واجباً عليّ أن أعرفه هو أن للصبر حدود، وللاحتمال قدرة.. ولما كان لروحي عليّ حق، ولبدني عليّ حقّ، فلحذائي أيضاً كان عليّ حق.. وحقّ لحذائي أن يعاقبني، وهذا ما حدث بالفعل؛ لقد عاقبني ولحق بي بالغ الحرج.
***
مشهد مماثل حدث لي لاحقاً أيضاً، إلا أن الأخير كان أكثر إيغالاً في الانكشاف والحرج، فعند دخول الحملة الدعائية أوجّها أراد القدر أن يوقعني مرة أخرى وكأنه درس أضافي، بل مكرر بأضعَاف سابقه.
كانت الدعوة لحضور مباراة أهلية في مدرسة “الفلاح” في “غليبة الأعبوس” وجميع المتنافسون الرئيسيون في الانتخابات سيحضرون هذه المباراة، وسيحضر أيضا جمع من المواطنين.
حضرتُ أنا والأستاذ الرفيق طاهر علي سيف والدكتور عبد الودود هزاع وثلاثتنا كنّا المتنافسون الرئيسيون على المقعد الانتخابي في الدائرة.. يبدو أن الدعوة كانت لتجسيد الروح الرياضية في التنافس الانتخابي، وإبراز تعاطي التحضر والرقي بين المتنافسين، أو هكذا ظننت.
نزلتُ من السيارة التي تقلّني، وقبل أن أصل بوابة مدرسة الفلاح، انخلع حزام حذائي الذي يثبّت قدمي بفردة الحذاء، حاولتُ سحبها دون أن ألفت نظر من حولي، ولكن السحب كان يثير احتكاك وغبار.. تعثرت مشيتي.. كانت خطواتي تبدو وكأنني معاق في أقدامي.. كانت تثير لدي الحرج ولمن يشاهدني الضحك والعجب.. أحجمتُ عمّا أنا عليه، وحملتُ فردة حذائي التي خانتني بيدي، واستبقيت الأخرى بقدمي، وكان المكان المخصص للجلوس قريب. وفي المكان تصافحنا وتعانقنا أنا والرفيق طاهر والدكتور عبد الودود.. جلسنا بود وبروح رياضية إلى جوار بعض.
خلال المباراة نظرتُ خلسة نحو حذائي.. كان يشبه حذاء شاقي أو رعوي لا يهتم ولا يكترث بأناقته وأناقة حذائه، شاقي يكتفي أن حذائه يحميه من الشوك فحسب.. تلك هي حاجته من الحذاء، وما عداها ربما يراها فائض عن حاجته، لا يهتم به ولا يبالي فيه، وفي مقدمة ذلك أناقته التي هي بعد المائة في سلّم احتياجاته.
وجدتُ حذائي يكشفني، ويحكي بؤسي وشقائي، الذي أحاول أن أداريه أحياناً ولضرورة عن الناس.. كنتُ أداري عن نفسي قلة حيلتي التي لا أريد أن أراها، ولا يراها غيري.
كان وجه حذائي بين الأحذية متآكلاً وهالكاً، فيما جواره كانت أحذية المرشحين، فاتنات تخطف الانتباه وتشد البصر، وفيها البصر يشرد غاوياً ويزيغ.. كانت أحذيتهم لامعة وجديدة، وكأنهم لا ينتعلونها في أقدامهم، ولا تلامس قيعانها السفلى خشونة الأرض وحبات التراب.
أحسستُ لحظتها كطفل يريد أن ينفجر بالبكاء.. أعادتني اللحظة إلى أحد الأعياد، وهو عيد كان فيه أقراني يلبسون الجديد، فيما ثيابي بالية ومكرمشة تحكي ما يثير غصتي وشفقة العيان، وفي أعماقي كان يوجد حزن أقمعه بشدة.. أحسستُ أن إنسان داخلي يريد أن ينفجر بالبكاء كطفل صغير.. كنتُ في أعماق نفسي أقاضي القدر داخلي؛ لأنه لا يساوي بين فرص مرشحيه حتى بالأحذية.
انتهت المباراة وتفاجأتُ بمناداة المرشحين الثلاثة للنزول إلى ساحة ميدان المدرسة، والاصطفاف إلى جانب بعض لتكريم الفريق المنتصر والسلام على الوصيف.. لحظة مربكة وحذاء بدأ لي فاضحاً.. خُضتُ معركة مع نفسي ومع حذائي حتّى يبدو الأمر أقل وقعاً ومبالاة.
المرافقين معي ممن كانوا في قيادة حملتي الانتخابية، ومنهم محمد فريد سعيد، وردمان النماري، طيّروا ما حدث للأستاذ محمد عبد الرب ناجي، وهو رئيسي وقدوتي، وقد وجه على الفور بشراء حذاء جديد على حسابه الخاص، وكنتُ في اليوم الذي تلاه قد صرتُ أرتدي حذاء جديداً.
بعد 17 عاما من عضويتي في مجلس النواب أحد أعضاء فريقي الانتخابي في يوم زواج ابنيه عاتبني بأنني تكبرتُ ولم أعد ذلك الذي عرفوه، فأريته حذائي وقلت له: “حذائك أفضل من حذائي..” فقهقه كلانا، ولم أرِد أن أزيد أن أبنائي لم أستطع تزويجهما أو مساعدتهما على الزواج، والأهم لازال الحال كذلك إلى اليوم
***
للاشتراك في قناة موقع يمنات على التليغرام انقر هنا